فصل: مسألة المقارضين يقتسمان المال فيتلف من أحدهما ويؤدي الآخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة إذا دفع إليهما المال يعملان به جميعا فهما شريكان في العمل به:

ومن كتاب أوله إن أمكنتني:
قال عيسى: وكتب إليه يسأل: عن رجل دفع إلى رجلين مالا يعملان به جميعا فمات أحدهما وأقر دافع المال أن الحي منهما قد دفع إليه شطر ذلك القراض، هل يلزم ذلك الحي شيء مما على الميت إن كان الميت لم يدع وفاء أو يلزم الميت إن كان الحي مفلسا في ماله شيء مما على الحي؟
فقال ابن القاسم: أرى كل واحد منهما ضامنا لما على صاحبه إلا أن يكونا ادعيا هلاكها أو يدعيه أحدهما فيحلف على ذلك، وإن لم يدعيا هلاكا فإنما هو تفويض من أحدهما إلى صاحبه فهو ضامن إلا أن يكونا لم يفرطا فلا ضمان عليهما، وإنما يلزمهما الضمان فيما فوض أحدهما إلى صاحبه فأسلمه إليه وتركه يعمل فيه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأنه إذا دفع إليهما المال يعملان به جميعا فهما شريكان في العمل به وكل واحد منهما مطلوب بجميعه لأنه حميل عن صاحبه بما يلزمه من أداء نصفه، فما دفعه أحدهما من المال إلى صاحبه فهو متأد عنهما، وما بقي من المال فهو عليهما حتى يبرءا منه أو يدعيان فيه هلاكا فيصدق من ادعاه منهما مع يمينه وإن سلمه أحدهما إلى صاحبه لينفرد بالعمل به دونه فهو ضامن له، وبالله التوفيق.

.مسألة المقارضين يقتسمان المال فيتلف من أحدهما ويؤدي الآخر:

قلت: أرأيت المقارضين يقتسمان المال فيتلف من أحدهما ويؤدي الآخر هل يلزم الذي أدى غرم ما لم يؤد صاحبه أو لا ضمان عليه فيما تلف بيد صاحبه؟ وهل يكونان متعديين حين اقتسما المال؟ وما الأمر فيه؟ قال: نعم، يلزم الذي أدى ما تلف من صاحبه.
قال محمد بن رشد: أوجب ابن القاسم على المقارضين ضمان المال إذا اقتسماه، وهو قول ابن الماجشون في الوصيين يضمن كل واحد منهما على مذهبهما ما بيده وما بيد صاحبه إن تلف شيء من ذلك يضمن ما تلف بيده لرضاه برفع يد صاحبه عنه، ويضمن ما بيد صاحبه بتسليمه إليه، وكذلك المودعان والمستبضعان.
ووجه ذلك: أنه حمل الأمر على أن رب المال أراد أن يكون المال عند أحدهما برضا الآخر إذ لا يمكن أن يكون جميع المال عند كل واحد منهما فوجب إذا اقتسماه أن يضمناه وإن سلماه إلى أحدهما لم يضمناه.
ولسحنون في نوازله بعد هذا في الوديعة والقراض أنهما إن اقتسماهما لم يضمناهما، وكذلك البضاعة على مذهبه؛ إذ لا فرق في ذلك بين القراض والوديعة والبضاعة وهو قول أشهب وابن عبد الحكم في الوصيين.
ووجه ذلك: أن رب المال لما رضي أن يكون المال عند كل واحد منهما برضا الآخر فقد رضي أن يكون نصفه عند كل واحد منهما. وقول ابن القاسم أظهر؛ لأنهما إذا اقتسماه على سبيل التشاح فلما ترك كل واحد منهما نصف المال لصاحبه بما ترك له صاحبه من نصفه الآخر فاتهما على أنهما فعلا ذلك لأنفسهما لا نظرا لصاحب المال فوجب أن يضمنا.
والحكم في ذلك إذا تشاحا واختلفا عند من يكون منهما فأراد كل واحد منهما أن يكون عنده أو أراد كل واحد منهما أن يكون عند صاحبه أن يتبع قول صاحب المال في ذلك على ما قال في أول رسم من سماع أصبغ بعد هذا وذلك ما لم يقبض المال بعد، فإن كان قد قبض أقر بيد الذي دفعه صاحبه إليه منهما.
قال في رواية أصبغ المذكورة: فإن كان دفعه إليهما جميعا فجميعا وذلك يكون مثل أن يأتي بالمال إليهما وهو في المسجد أو في غير منزل أحدهما فيضعه بين أيديهما، ويقول لهما: هذا المال وديعة عندكما، أو قراض بأيديكما أو بضاعة عندكما ويذهب عنهما.
فيختلفان عند من يكون منهما، وليس في قوله فإن كان دفع إليهما جميعا فجميعا بيان في وجه الحكم في ذلك، إذ لا يمكن أن يكون المال كله عندهما جميعا. فهو كلام فيه إشكال.
يحتمل أن يريد به أنه لا مزية لواحد منهما على صاحبه فيه فيجعله الإمام عند من رأى منهما، ويحتمل أن يريد وهو الأظهر أن الإمام يقسمه منهما على ما روى علي بن زياد عن مالك في الوصيين يتشاحان في المال أنه يقسم بينهما. وليس قول ابن القاسم هذا على هذا التأويل، ولا رواية علي بن زياد عن مالك بمخالفة لما اتفقت عليه الروايات من أنه ليس لهما أن يقتسما المال بينهما. فتحصيل هذا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز لهما أن يقتسما المال بينهما.
واختلفوا إن اقتسماه هل يضمناه أم لا؟ واختلفوا أيضا إذا تشاحا عند من يكون منهما ورب المال غائب أو ميت ولم يدفعه إلى أحدهما ولا قبضه واحد منهما بعد، أو قبضه دون إذن صاحبه ودفعه إليهما جميعا فلم يبن به واحد منهما بعد أن بان به دون صاحبه. فقيل: إنه يقسم بينهما. وهو قول مالك في رواية علي بن زياد عنه. وظاهر ما في سماع أصبغ على الأظهر من التأويلين.
وقيل: إنه يدفع إلى الأعدل منهما وهو قول مالك في كتاب الوديعة من المدونة في الوصيين، ويحتمل ألا يكون ذلك اختلافا من القول، وأن يكون الوجه فيه أن الإمام يقسمه بينهما على ما روى علي بن زياد عن مالك إن كان ذلك عنده وجه النظر فيه ويجعله عند أعدلهما على ما في المدونة: إن كان ذلك عنده هو وجه النظر فيه، وقد كان من أدركنا من الشيوخ يذهب إلى أن لهما هاهنا أن يقتسماه بينهما ابتداء على رواية علي بن زياد عن مالك، وذلك لا يصح؛ لأن الإمام يفعل من ذلك ما يراه وجه النظر ولا تهمة عليه فيه، وهما فيما اقتسما إياه متهمان على ما ذكرناه، وأما إن كان صاحب المال حاضرا فيتبع قوله فيمن يحب أن يكون عنده منهما.
وكذلك إن كان قد دفعه إلى أحدهما فهو أحق أن يكون عنده، وكذلك إذا كان قد قبضه أحدهما بإذن صاحبه كان أحق أن يكون عنده.
وشبه في المدونة المودعين والمستبضعين بالوصيين في أن المال يجعل عند أعدلهما. وذلك صحيح على ما بيناه من أن المودعين إذا اختلفا فيمن يكون المال عنده منهما وصاحبه غائب ولم يدفعه إلى أحدهما أنهما كالوصيين في أنه يجعل عند أعدلهما أو يقسم بينهما على قول مالك في رواية علي بن زياد عنه.
وقال سحنون: لا يشبه المودعان الوصيين لأن المال لا ينزع من المودع ويجعل عند الأعدل كما ينزع من الوصي ويجعل عند الأعدل.
وليس قوله بصحيح؛ لأن المال إذا صار عند أحد المودعين بغير علم صاحب المال ولا إذن شريكه فدعا شريكه إلى أن يكون عنده المال وصاحبه غائب وجب أن ينظر الإمام في ذلك، فإن كان شريكه أعدل منه أخرجه من يده ووضعه عند الأعدل كما يفعل في الوصيين، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

.مسألة العامل بالقراض إذا أعطى بالسلعة عطاء أيجوز له أن يشتريها بمثل رأس مال:

ومن كتاب القطعان:
وسئل ابن القاسم: عن العامل بالقراض إذا قدم بالسلعة التي اشترى فعرضها فأعطى بها عطاء فأراد العامل أن يشتريها بمثل رأس مال.
قال: لا بأس أن يشتريها بنقد وإن تأخر النقد فلا خير فيه إلا أن يشتريها بمثل رأس مال القراض وبوضيعة منه فأرجو أن يكون خفيفا، قال: وإن أراد صاحب المال شراءها بنقد أو إلى أجل فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته.

.مسألة يدفعان إليه المال قراضا فيقولان له أخلط مالينا ولك ثلث الربح:

وسئل ابن القاسم: عن الرجل يدفع إليه الرجلان المال قراضا فيقولان له أخلط مالينا ولك ثلث ربحه كله ولكل واحد منا الثلث؟
قال: لا خير في هذا الشرط إلا أن يشتري هو سلعة فيخلط المال من قبل نفسه بغير شرط فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إنه لا فرق بين أن يأخذ منهما القراض على أن يخلط ماليهما وبين أن يأخذه من أحدهما على أن يخلطه بماله لما يدخله من اغتزار الزيادة في الربح بكثرة المال.
وقد اختلف إذا وقع ذلك، فقيل: إنه يرد إلى قراض مثله، وهو قول ابن حبيب، والظاهر من قول مالك في المدونة أن ذلك لا يجوز أنه يرد إلى إجارة مثله، وهو قول سحنون نصا أنه يرد إلى إجارة مثله، وقيل: إنه إن وقع مضى على سنته ولم يفسخ، وهو قول أصبغ، وأشهب يخفف ذلك ولا يرى به بأسا حتى يكون ذلك شرطا تعمداه لا استغزارا لربح، مثل أن يشترط عليه أن يضمه وهو يسير إلى مال له كثير، وحكاه ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ، وقال: إنه إذا وقع يقسم الربح على المالين، فتكون حصة مال العامل له، وحصة مال القراض بينهما على قراض مثلهما من غير شرط.
وروى أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا خير في أن يأخذ مالا قراضا على أن يخلطه بماله، ولا على أنه إن شاء أن يخلطه بماله خلطه وإن شاء أن يفرده أفرده. وقاله أصبغ، وقال: ليس بحرام وهو ذريعة للزيادة والأول أقر وهو واحد، وإن وقع لم أر أن يفسخ ومضى على سنته، وبالله التوفيق.

.مسألة المقارض بالمالين يزعم أنه ربح خمسين ولا يدري من أي المالين الربح:

وسئل مالك: عن المقارضين بالمال يزعم أنه قد ربح خمسين دينارا ولا يدري من أي المالين الربح، نسي ذلك، فقال: لا شيء له من الخمسين وتكون لصاحبي المال، لكل واحد منهما خمسة وعشرون دينارا.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف ما في رسم يوصى من سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح في الوديعة يقر بها الرجل للرجلين ويقول لا أدري لمن هي منهما أنهما يحلفان جميعا ويقتسمانها بينهما، بخلاف إذا قال: علي مائة دينار دين لا أدري هل هي لفلان أو لفلان فادعاها الرجلان جميعا أنهما يحلفان ويغرم لكل واحد منهما مائة مائة؛ لأن الدين في ذمته والوديعة في أمانته، وكذلك ربح القراض في أمانته يلزم فيه على ما في كتاب الدعوى والصلح في الوديعة أن تكون الخمسة وعشرون من الخمسين له والخمسة والعشرون الأخرى لصاحبي المالين يقتسمانها بينهما بنصفين بعد أيمانهما إن ادعى كل واحد منهما أن الربح كان من ماله أو بغير يمين، إن قال كل واحد منهما: لا أدري ولم يدع على صاحبه أنه يدري، وإن ادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يعلم أنها ليست من ماله حلف كل واحد منهما أنه لا يعلم أنها من مال صاحبه فاقتسماها بينهما بنصفين إلا أن يسلمها أحدهما لصاحبه.
ولو قال أحدهما: هي من مالي، وقال الآخر: لا أدري. قيل للذي قال لا أدري: احلف إنك ما تدري، فإن حلف على ذلك حلف الآخر إنها من ماله وأخذها، وإن نكل الذي قال لا أدري عن اليمين، أخذها الذي قال إنها من ماله دون يمين، وإن نكلا جميعا عن اليمين اقتسماها بينهما إلا أن يسلمها أحدهما لصاحبه، وقد روى عيسى عن ابن القاسم في رسم يدير ماله من كتاب المديان والتفليس في الدين أنه ليس عليه أكثر من المائة التي أقر بها، ويقتسمها الرجلان بينهما بعد أيمانهما، فإن حلفا أو نكلا كانت بينهما بنصفين، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين كانت للحالف منهما.
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يلزمه من الغرم لكل واحد منهما ما أقر به في الوديعة والدين، وهو الذي يأتي على قوله في مسألة القراض هذه؛ لأنه إذا أوجب ذلك عليه فيما في أمانته فأحرى أن يوجب ذلك عليه فيما في ذمته.
والقول الثاني: أنه لا يلزمه إلا مائة واحدة في الوديعة، والدين يكون بينهما بعد أيمانهما. وهو الذي يأتي على ما في رسم يدير من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس؛ لأنه إذا لم يلزمه في الدين الذي هو في ذمته إلا ما أقر به، فأحرى ألا يجب ذلك عليه فيما في أمانته.
والقول الثالث: الفرق بين الذمة والأمانة. وهو قول ابن القاسم في سماع عيسى من كتاب الدعوى والصلح على ما ذكرناه، والله الموفق.

.مسألة كاتب المقارض عبدا من مال القراض:

من سماع يحيى بن يحيى من ابن القاسم من كتاب المكاتب قال يحيى: وسألت ابن القاسم: عن رجل أخذ من رجل مالا قراضا فاشترى به عبدا فكاتبه وأجاز ذلك صاحب المال.
قال: الكتابة إذا أجازها صاحب المال جائزة. قلت: أرأيت إن أدى المكاتب ما عليه فكان ذلك قدر أصل المال، لمن يكون ولاؤه؟ قال: لصاحب المال خالصا دون العامل.
قلت: فإن كان فيما كوتب به فضل عن أصل المال؟ قال: يقتسمان الربح على شرطهما ويكون الولاء بينهما على قدر المال. قلت: أنصفين مثل الربح.
قال: بل ينظر إلى قدر حصة العامل من الربح ما هي من جميع الربح ورأس المال فإن كان سدسا أو خمسا أو سبعا أو نحو ذلك أي جزء كان حظ العامل من الربح من جميع رأس المال فكان شريكا بمثله في ولاء المكاتب.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن المقارض ليس له أن يكاتب عبدا من مال القراض إلا بإذن رب المال؛ لأن الكتابة ليست من التجارة التي أعطاه ماله بسببها. يبين ذلك قوله في كتاب المكاتب من المدونة المأذون له في التجارة لا يجوز له أن يكاتب عبده؛ لأنه لا يجوز له أن يعتقه، فإن كاتَب المقارض عبدا من مال القراض كان لرب المال أن يفسخ كتابته، وإن لم يعلم بذلك حتى أدى جميع كتابته ويكون ما قبض منه كالغلة، قاله في كتاب ابن المواز.
وقال أحمد بن ميسر: إلا أن يكون إنما أدى عنه أجنبي فأعتقه العامل فينفذ عتقه إن كان لم يحاب الأجنبي في ذلك، ولو علم رب المال بذلك فسكت ولم ينكر للزمه.
وقوله في الولاء إنه يكون للمقارض منه إذا أجاز رب المال كتابته بقدر ربحه من جملة المال والربح إن كان فيه ربح صحيح؛ لأنه شريك فيه بقدر ربحه فيكون بمنزلة العبد بين الشريكين يكاتبانه جميعا، وبالله التوفيق.

.مسألة يقارض الرجل بتبر الذهب والفضة:

سألته: عن الرجل يقارض الرجل بتبر الذهب والفضة، فقال: أكره ذلك في البلد الذي لا يدار فيه إلا الدنانير والدراهم المضروبة، فإن وقع أجزته ولم أره كالقراض بالعروض، ولا أرى به بأسا في البلد الذي يدار فيه الذهب والفضة تبرا إذا كانوا يشترون بها ويبيعون.
قلت: أرأيت إن أخذها ببلد لا يدار فيه، فاستضرب الفضة دراهم فنقصت، ماذا يرد على صاحبها عند التفصيل؟ فقال: يرد مثل الذي أخذ وزنها وطيبها، ثم يقتسمان ما بقي.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة المسلم هل يقارض النصراني:

من سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب قال عبد الملك بن الحسن: سئل ابن وهب، وأنا أسمع: عن المسلم هل يقارض النصراني؟ فقال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: معنى ما ذهب إليه ابن وهب في إجازته ذلك والله أعلم هو إذا كان إنما يتجر في البز ونحوه ويبيع بالنقد فيتحقق سلامته من الربا، وأما إذا خشي أن يعمل بالربا فلا يجوز له أن يقارضه، هذا مذهب مالك وجميع أصحابه.
فقد قال في المدونة: إنه لا ينبغي للرجل أن يقارض من يستحل شيئا من الحرام في البيع والشراء وإن كان مسلما، ولا من لا يعرف الحلال والحرام، وقال ابن المواز: إنه إن قارض النصراني فربح فُسخ القراض ورد إلى المسلم رأس ماله، وهذا عندي إذا قارضه على علم منه أنه يعمل بالربا.
وأما إن قارضه وهو يرى أنه لا يعمل بالربا ثم خشي أن يكون قد عمل به تصدق بالربح استحسانا، وإن تحقق ذلك تصدق إيجابا، ولو خشي أن يكون قد اشترى به خمرا أو خنازير لابتغي له أن يتصدق بجميع المال استحسانا. ولو تحقق ذلك لوجب عليه أن يتصدق به.
وقد قيل: إنه إذا اشترى به خمرا أو خنازير لزمه ضمانه؛ لأنه قد دخل مع المسلم على ألا يتجر بماله إلا فيما يجوز للمسلمين ملكه.
وذلك يتخرج على الخلاف في منع الرجل امرأته النصرانية من شرب الخمر والذهاب إلى كنيستها، ففي المدونة: أنه ليس له أن يمنعها من ذلك. فعلى قياس ذلك ليس له أن يمنعه من التجر فيما يستبيحه في دينه. وقد قيل: إن له أن يمنعه من ذلك؛ لأنها قد دخلت معه على حكمه. فعلى قياس ذلك ليس له أن يشتري بماله إلا ما يجوز للمسلمين ملكه، فإن فعل ذلك لزمه ضمانه، وأما مساقاة المسلم النصراني فهي جائزة إذا كان لا يعصر خمرا، فإن قاسمه فأراد أن يعمل خمرا لم يمنع ولكن لا يعود المسلم إلى معاملته.
وأما أخذ المسلم من النصراني كرمه مساقاة أو ماله قراضا فأجيز وكره، كرهه مالك في المدونة وأجازه في رواية ابن نافع عنه في المدنية. فقال: لا بأس به، والكراهية فيه أبين وأصح، فإن وقع لم يفسخ.
وأما إذا آجره نفسه على عمل يكون فيه عنده وتحت ملكه فلا يجوز ويفسخ، فإن فات بالعمل مضى واستوجب جميع أجره إلا أن يكون عمله في عصر خمر وحرز خنازير فلا يمكن من الأجر ويتصدق به على المساكين. وأما إن عمل له عملا في داره أو حانوته كالصانع يخيط له ثوبا وما أشبه ذلك فهو له جائز.
فعلى هذه الوجوه الأربعة تكون إجارة المسلم نفسه من النصراني: وجه جائز، ووجه مكروه، ووجه غير جائز، ووجه حرام، وبالله التوفيق.

.مسألة لا زكاة على العامل حتى يكون في حظ رب المال ما تجب فيه الزكاة:

من سماع سحنون وسؤاله ابن القاسم قال سحنون: وسألت ابن القاسم: عن الرجل يدفع إلى الرجل مائة دينار يعمل بها قراضا فعمل بها عشرة أشهر، ثم ابتاع رب المال من بعض السلع التي في يديه بمائة دينار فأخذ ذلك رب المال وبقيت سلع فأقروها فيما بينهم؛ لأنها ربح فباعوها بعد شهرين أو ثلاثة بعشرين دينارا أو بثلاثين دينارا لرب المال النصف، قال: لا زكاة على العامل حتى تباع السلعة بمال يكون لرب المال منه ما تجب فيه الزكاة مثل أن يباع بأربعين أو خمسين.
قلت: لم؟ قال: لأنه كان المعاملة إنما كانت في هذه السلعة. فأما ما أخذ من رأس المال قبل ذلك فكأنه لم يكن. وكذلك لو أخذ بعض المال وترك بعضه كان مثل هذا.
قلت: فإن كانت المعاملة على أن للعامل الثلثين ولرب المال الثلث فباعا السلعة التي بقيت بعد أخذ رب المال رأس ماله بشهرين أو ثلاثة تمام السنة؟ قال: لا زكاة على العامل حتى يكون في حظ رب المال ما تجب فيه الزكاة.
وإنما هو بمنزلة من دفع إلى رجل دينارا على أن يعمل به قراضا على أن للعامل الثلثين ولرب المال الثلث وربحوا حتى صارت اثنين وثلاثين دينارا على أن يعمل به قراضا، فلرب المال رأس ماله دينار وثلث الأحد وثلاثين دينارا، وليس على العامل زكاة وإن كان له ما تجب فيه الزكاة، وإنما يكون على العامل الزكاة في ربحه إذا كان في رأس مال رب المال الذي يعمل به العامل وربحه ما تجب فيه الزكاة.
قلت لابن القاسم: فإن دفع رجل إلى رجل عشرة دنانير يعمل بها وله في بيته مائة دينار فيعمل العامل فباعوا بعد الحول بخمسة وعشرين دينارا، والمائة الدينار التي لرب المال هي عنده كما هي، هل يكون على رب المال وعلى العامل زكاة؛ لأن المال الذي عمل به العامل من أصل ما تجب فيه الزكاة.
قال: لا ليس ذلك على العامل، وإنما يكون على العامل الزكاة في ربحه إذا عمل سنة وفي مال رب المال الذي يعمل به وربحه ما يجب فيه الزكاة. ولا يلتفت إلى ما في يدي رب المال مما لم يدفعه إلى العامل، فيكون على رب المال الزكاة في ماله الذي في يديه وفي المال الذي يأخذه من العامل من رأس ماله وربحه، ولا شيء على العامل. قال لي:
وكذلك قال مالك في المال يكون عند ربه عشرة أشهر وهي مائة دينار، فيدفعها إلى رجل يعمل به شهرين فيربح فيهما ويقاسمه: إن الزكاة على رب المال في ماله وربحه ولا يكون على العامل شيء وإن كان في ربحه ما تجب فيه الزكاة حتى يعمل به سنة.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إن ما أخذ رب المال من رأس ماله من العامل قبل أن يحول عليه من يوم دفعه إليه لا يعتبر فيه في وجوب الزكاة على العامل في حظه من الربح- صحيح على أصله الذي لم أعلمه اختلف فيه قوله في أن العامل لا يجب عليه في حظه من الربح زكاة، وإن عمل في المال حولا وكان في حظه منه ما تجب فيه الزكاة إذا لم يكن في رأس مال رب المال وربحه ما تجب فيه الزكاة، وإن وجبت على رب المال فيه الزكاة بإضافته إلى مال له قد كان بيده لم يدفعه إلى العامل؛ لأن ما قبض من العامل قبل أن يحول عليه الحول عنده من يوم دفعه إليه فكأنه لم يدفعه إليه وأبقاه بيده.
وسواء على ما نص عليه في هذه الرواية قبض قبل الحول منه جميع رأس ماله أو بعضه إنما ينظر إلى ما يجب إليه مما بقي كان ربحا خالصا أو بقية رأس ماله وحصته من الربح، فإن كان ما يجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة، وإن لم يبلغ ذلك ما يجب فيه الزكاة لم يجب على العامل في حظه من الربح زكاة، وقد قال في رواية أصبغ عنه: إن الزكاة تجب على العامل في حظه من الربح إذا كان في رأس المال وجميع الربح ما تجب فيه الزكاة.
وهو قول أشهب وروايته عن مالك فيما تقدم وقول أصبغ في سماعه وقول سحنون في كتاب ابنه، فعلى هذا إذا قبض قبل أن يحول الحول على ما بيده جميع رأس ماله أو بعضه فحصل بعد الحول في جميع الربح أو في جميعه مع ما بقي عنده من رأس المال ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل في حظه الزكاة. والأول هو المشهور من قول ابن القاسم المعلوم من مذهبه في المدونة وغيرها.
وفرق محمد بن المواز فيما تأول على ابن القاسم بين أن يقبض قبل الحول منه جميع رأس ماله أو بعضه، فقال: إذا قبض منه قبل الحول جميع رأس ماله فلا زكاة على العامل في حظه من الربح، وإن صار لرب المال في حظه الذي قبض منه بعد الحول ما تجب فيه الزكاة وأنه إن قبض منه بعض رأس المال قبل الحول وأبقى بيده بعضَه حتى حال عليه الحول فصار له في بقية رأس ماله وحصته ما تجب فيه الزكاة وجبت على العامل الزكاة في حظه، وإن لم يصر له في ذلك ما يجب فيه الزكاة ولا بقي له من المال قبل الحول ما يتم به النصاب لم يجب على العامل في حظه الزكاة لسقوط الزكاة عن رب المال، وإن كان قد بقي بيده مما قبض قبل الحول تَتِمّة النصاب زكى ذلك، وزكى العاملُ من ربحه ما ينوب منه ما بقي بيده من رأس المال إلى أن حال عليه الحول وهذا تناقض؛ إذ لا فرق في القياس فيما يجب على العامل في حظه من الزكاة بين أن يجب على رب المال زكاةُ ما بقي بيده، أو ما ينوبه من الربح ببلوغه ما تجب فيه الزكاة أو بإضافته إلى ما قبض منه قبل الحول من رأس ماله.
وقولُ ابن القاسم الذي تأول عليه محمد بن المواز هذا التأويل الذي ذكرناه عنه هو قولُه في رواية أبي زيد عنه في سماعه من هذا الكتاب، وقد كان القياس أن يجب على العامل زكاةُ جميع حظه من الربح إذا وجبت على رب المال الزكاة فيما قبض بعد الحول من العامل من ربحه أو من بقية رأس ماله وربحه ببلوغ ذلك ما تجب فيه الزكاة أو بإضافته إلى ما قبض منه قبل الحول من رأس ماله أو إلى مال له سِوَاهُ لم يدفعه إليه وبالله التوفيق.